بقلم: نصار إبراهيم
يتركز النقاش في هذه المقالة على الوضع الذاتي، رغم الإغراء بسهولة التركيز على وحشية العدوان الإسرائيلي، غير أن ذلك لن يضيف شيئا لما يراه ويعيشه كل طفل فلسطيني في قطاع غزة وفي فلسطين... فمشاهد الموت والدمار والدماء والأشلاء في الواقع لا تحتاج لمن يعيد تصويرها بالكلمات... ومن ينتظر من الاحتلال غير الموت والدمار والقتل فالمشكلة عنده وليس عند الاحتلال.
ما يحتاج إلى نقاش الآن وغدا وكل يوم هو الواقع والأداء السياسي الفلسطيني، بهدف إخضاعه للنقد والتقييم وإن بقسوة، بشرط التحلي بالدقة والموضوعية والابتعاد عن الأسفاف.
الدافع من وراء هذه العملية الحيوية هو محاولة الارتقاء بالأداء السياسي والقيادي إلى مستوى المجابهة والاشتباك والدماء الفلسطينية التي تفيض وتغطي وجه الكون... ذلك لأن الحرب العدوانية التي تدور الآن ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ومع ذلك يبدو أن الكثيرين ينسون أو يتناسون دروس العدوان، ودروس الدماء والدمار والمقاومة وفي النتيجة يخفقون في التقاط فرص التغيير وبناء الشروط الذاتية للانتصار وإحقاق الحقوق... وهذه بالضبط هي معضلة الذاكرة المثقوبة في واقع مثقل بالتاريخ والنضال والتضحيات والدماء والأحلام والطموحات، واقع مجابهة ومعادلات لا تملك ترف الرهانات والخيارات التي تخطئ في أبجديات وبديهيات السياسة... ذلك لأن الثمن سيكون مزيدا من الدماء والتضحيات والمعاناة.
يعني مفهوم الذاكرة المثقوبة فقدان القدرة على رؤية السياقات التاريخية وتوظيف المخزون المعرفي والدروس والإنجازات المتراكمة، بما في ذلك الدروس المستفادة من الفشل والأخطاء، كما أنها ذاكرة تتجاهل حقائق الواقع الاستراتيجية المادية والمعنوية في حقول التأثير المحيطة القريبة والبعيدة، ولهذا فهي ذاكرة قصيرة تبني مقارباتها على اللحظة الراهنة وعلى الحدث المباشر دون رؤية امتدادات وتقاطعات ذلك الحدث في الواقع وفي سياقات الزمن، وتصبح خطورة هذه الذاكرة مضاعفة عندما يتعلق الأمر بحركة الشعوب والظواهر الاجتماعية، ذلك لأن قيادة الشعوب والتغيير الاجتماعي تحتاج لذاكرة عميقة قادرة على رؤية السياقات والعوامل الطاردة والجاذبة، عوامل الدفع وعوامل الكبح، ذاكرة تتحرك برصانة وعمق مبني على معلومات ومقاربات صلبة مرتبطة بالأهداف الكبرى للشعوب، وغير ذلك سنكون امام أداء هش وسطحي.
غزة تحت النار وفي قلبها، هذه حقيقة، وهي تحت النار منذ وجد الاحتلال، وهذه أيضا حقيقة، وفلسطين في قلب نار العدوان الإسرائيلي منذ لحظاته الأولى، وهذه حقيقة الحقائق... ولكن في كل مرة تبادر فيها إسرائيل لحلقة جديدة في سلسلة حروبها وعدوانها المتواصلة على غزة أو غيرها، تتصرف بعض القوى وبعض القيادات وكأن ذلك يحدث للمرة الأولى... والأكثر سخرية ومأساوية في آن هي ردود الفعل وشكل ومضمون الأداء والخطاب السياسي في مواجهة تلك الحروب الأزلية، بما يذكرنا بالإسطوانة العالقة وهي تكرر جملة "إفقسي بيضة"!.
عدوان مستمر، ومقاومة تحاول جهدها، ودماء تنزف، وخطاب سياسي عالق ومعلق، وذاكرة تتصرف وكأنها مثقوبة.. هذا هو واقع الحال... كيف؟
ولكن وقبل الخوض في التفاصيل هناك تنويه ضروري وأساسي يجب أن يبقى حاضرا في الذهن وباستمرار ومن بداية هذه المقالة حتى نهايتها وهو أن النقاش في هذا السياق لايستهدف، وبأي شكل من الأشكال، المساس بدور وتضحيات قواعد وجماهير القوى السياسية والشعبية الفلسطينية كافة، تلك القوى والجماهير التي تقاوم وتقدم بلا حدود، بل يستهدف مستوى الأداء السياسي والقيادي، الذي من واجبه حماية نضالات وتضحيات تلك القواعد وتلك الجماهير لكي ترتقي المستويات القيادية في أدائها وخطابها إلى مستوى عطاء ونضالات قواعدها وجماهيرها.
مع كل عدوان إسرائيلي.. نعيد اكتشاف ما هو مكتشف؛ فنكتشف فجأة أن إسرائيل عدوانية ووحشية، وفيما الشعب يصمد ويقاتل في مواجهة تلك العدوانية نجد أن الخطاب السياسي يميل للهبوط وهو يكتشف مع كل حرب بأن موازين القوى ليست في صالح الشعب الفلسطيني، وهنا لا مشكلة في وصف ورؤية الواقع، غير أن المشكلة تتجلى عندما ندرك بأن الهدف من تظهير ما هو ظاهر هو إغراق الوعي الجمعي بلا جدوى المقاومة والصمود لتبرير هبوط الأداء وحالة العجز وتقديم ذلك باعتباره تعبير عن عبقرية العقلانية السياسية (يذكرنا هذا بمقولة بليخانوف بعد فشل ثورة 1905 في روسيا عندما صرخ: ما كان ينبغي حمل السلاح... فيرد عليه لينين مذكرا بموقف ماركس- الذي حذر العمال في كومونة باريس عام1870 قبل الثورة من خطورة الفشل – ولكنه بعد نزولهم للشارع قال: لقد "هبوا ليقتحموا السماء" ووضع نفسه في خدمة الثورة) (1) ... ومن تجربتنا الفلسطينية ألم يقتحم عز الدين القسام السماء عام 1935، وأيضا غزة ألا تقتحم السماء كل عام أو عامين... فهل نقول لهم... ما كان ينبغي حمل السلاح؟!
ومع ذلك... متى كانت موازين القوى على مر التاريخ في صالح حركات المقاومة وحركات التحرر الوطني (هذا ما كان عليه الحال في كوبا وفيتنام والجزائر ولبنان...) فموازين القوى دائما مختلة لصالح الاحتلال، وبالتالي فإن الوظيفة المركزية للمقاومة وقيادة حركة التحرر الوطني والحركة الشعبية هي تعديل موازين القوى تلك كشرط موضوعي وذاتي للتحرر... أليس كذلك؟
ردود فعل وأداء الذاكرة المثقوبة تبدو وكأنها خاضعة لمتلازمة أزلية، لا تتبدل ولا تتغير: مثلا أن ما تقوم به إسرائيل كدولة احتلال هي حرب عدوانية، حرب إبادة، مما يستوجب الشجب، الاستنكار، والإدانة، مع إضافة كلمة بشدة (لاحظوا بشدة هذه)... ثم تأتي جهينة بالطلب اليقين: مطالبة إسرائيل بوقف عدوانها فورا...فورا...فورا...فورا...طيب؟!
ثم:نبدأ بمطالبة الدول العربية، ومناشدة "الإخوة" العرب للتحرك وفورا لوقف العدوان... طيب ؟!
ثم:ندعو ونطالب ونناشد ونتمنى ونأمل أن يجتمع مجلس الأمن للوقوف أمام مجازر وجرائم إسرائيل... طيب؟!
ثم:نطالب الإدارة الأمريكية لاتخاذ موقف واضح وغير منحاز (نعم هكذا غير منحاز! وأيضا بشدة)...فتستجيب أمريكا بسرعة فائقة وفورا: أوباما يؤكد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"... فيما يعلن السفير الأمريكي في تل أبيب: بأن "الولايات المتحدة ستبقى تدعم إسرائيل حتى لو قامت بعملية برية ضد قطاع غزة"... ثم يتبنى الكونغرس الأمريكي " قرارا بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية عليها"هل هذا واضح؟!
ثم:نطالب بقية المجتمع الدولي، بما في ذلك أوروبا بالتأكيد، بالتحرك وفورا لوضع حد لعدوان وغطرسة إسرائيل... طيب!
ثم:وفي حال استمرت إسرائيل في عدوانها وحربها فإننا نهدد بالتوجه إلى المؤسسات الدولية بما في ذلك محكمة الصلح ومحكمة البداية، ومحكمة النهاية ومحكمة الاستئناف، والمحكمة العليا والسفلى، ثم محكمة الجنايات الدولية... نعم هكذا!
ثم:"افقسي بيضة!"
يقال بأن شر البلية ما يضحك، وعادة ما يكون هذا الذي يضحك هو ذاته الذي يبكي... يحدث هذا هنا بالضبط " هنا شرق المتوسط" وللمرة الواحدة بعد الألف، حرب مستمرة برا وبحرا وجوا، وذاكرتنا هي هي وخطابنا هو هو، ذاكرة مثقوبة، وخطاب مكرور...
ذاكرة مثقوبة، لأنها تحاول وباستمرار تخطي وتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا والاجتماع والسياسة التي تحكم دوائر الفعل الأربع التالية التي تقرر مصائر وصيرورات المواجهة مع الاحتلال: دائرة الاحتلال وطبيعة المشروع الصهيوني،دائرة الشعب الفلسطيني وشروط مقاومته لتحقيق أهدافه الوطنية، الدائرة العربية وارتهانها السياسي والطبقي،دائرة المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية وما يحكمها من معادلات وموازين قوى.
وتتجلى"مهارات" الدائرة المثقوبة في مقارباتها وتفاعلها مع هذه الدوائر المتداخلة والمتقاطعة في كل المستويات.
بمعنى،تنسى الذاكرة المثقوبة وتتجاهل مثلا، طبيعة الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني، بما هو مشروع لا يتحرك عفويا أو بنزق، كما لا تعنيه ولا تهمه أو تلفت نظره المناشدات الأخلاقية، فخياراته وممارسته وسلوكه السياسي والعسكري يتحدد وفقا لاستراتيجيته النقيضة لوجود وحقوق الشعب الفلسطيني، ولهذا فأي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية بما في ذلك ما يسمى بالمقاومة السلمية أو غير العنفية هي في نظره عمل إرهابي وعدواني (آخر اكتشاف في القاموس السياسي والإعلامي الإسرائيلي مفهوم: الأعمال الإرهابية الفلسطينية غير العنفية)، وبالتالي وأمام كل ذلك فإن من حق إسرائيل دائما "الدفاع عن نفسها"، كما من حقها شن الحروب والعدوان في أي مكان وفي أي زمان، وفي سياق ذلك فهي لا تلتفت لا للمناشدات ولا للتهديدات، لأنها تعتبرنفسها محصنة بدوائر دعم استراتيجية تعرف حدودها وصلابتها ومدياتها تماما.
أما بالنسبة للشعب الفلسطيني فتتجلى الذاكرة المثقوبة في مقاربة واقع ونضالات ومقاومة هذا الشعب وكأنه وجد وولد بعد اتفاقيات أوسلو بكل معادلاتها وبناها وترجماتها،وليس شعبا يقاوم تحت الاحتلال وفي المنافي منذ 66 عاما، ولهذا تحاول الذاكرة المثقوبة تبهيت تلك المقاومة والتقليل من شأنها،كي تبرر سلوكها "وعقلانيتها" الراهنة، فتتجاهل أيام وسنوات المقاومة الأولى منذ بدايات القرن الماضي وصولا حتى اللحظة وما بينهما.
كما تتحرك الذاكرة المثقوبة انطلاقا من معادلة عاجزة تجاه مفهوم القوة وموازين القوى وعلاقات القوة، وتتصرف وكأن الشعب الفلسطيني لا حول له ولا قوة، وفي سياق ذلك تكتشف الذاكرة المثقوبة فجأة أن المقاومة الفلسطينية لا تملك الطائرات والدبابات والصواريخ البالستية لكي تعادل الجيش الإسرائيلي، (يذكرنا هذا بإحالة البعض لأسباب فشل بعض تجارب المقاومة الفلسطينية في الماضي لعدم وجود غابات فيتنام أو جبال سيرا مايسترا في كوبا!)... وفي السياق ذاته يمكن رؤية خطاب بعض القيادات التي وصفت صواريخ المقاومة بالحجارة التي لا تأثير لها، وحتى لوكانت كذلك، وهي بالتأكيد ليست كذلك،وباعتراف العدو نفسه، ألم يكن من الأجدى على الأقل الصمت احتراما لمشاعر وجهود أولئك الشباب الذين يحاولون نقل وتخزين وحماية وقذف تلك "الحجارة" من غزة إلى تل أبيب؟!
الذاكرة المثقوبة ذاتها تتجاهل وعن عمد حالة العجز التي وصلت إليها بسبب خياراتها وما أسست له من معادلات سياسية وأمنية واقتصادية، بحيث جعلت الشعب الفلسطيني أسيرا لتلك المعادلات، لقد أوصلت الشعب الفلسطيني لهذا الواقع وبعدها تأتي لتقول ماذا نفعل؟ ليس بيدنا حيلة! والأكثر خطورة ولكي تبرر الذاكرة المثقوبة ذاتها فإنها ترى أن ما صلت إليه الحال كان بسبب مغامرات الشعب الفلسطيني وعناده ولا عقلانيته عبر التاريخ... السبب إذن هو مقاومة الشعب الفلسطيني، وثقافة اليد التي تصر على مقاومة المخرز.
كما تحاول الذاكرة المثقوبة وباستمرار حشر معادلات التحرر الوطني والاستقلال وإزالة الاحتلال، ومواجهة الحروب العدوانية تحت سقف العمل الديبلوماسي، فهي ذاكرة ميالة دائما لتقليص المساحات والخيارات، وذلك بحجة عدم استفزاز الطرف الآخر وعدم إعطائه الذرائع والمبررات، أي بعد 66 عاما من الاحتلال لا تزال الذاكرة المثقوبة تعتقد أن سياسات وسلوك إسرائيل مرتبط بالذرائع والمبررات.
الوجه الآخر لهذا السلوك هو ثقافة الاستهانة بالمقاومة كثقافة وممارسة والتقليل من شأنها، والمناورة على التناقض بين مهام التحرر الوطني و مهام البناء الاجتماعي. في حين أن شروط التحرر الوطني واضحة بما هي عملية بناء استراتيجية وطنية تقوم على احترام إرادة ومقاومة وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة بكل أشكالها، وعدم حصرها تحت سقوف ومعادلات ما يسمى بالمجتمع الدولي... بل إنطلاقا من الحق الطبيعي السياسي والتاريخي والأخلاقي لأي شعب في مقاومة الاحتلال، وهو حق غير قابل للنقض... وبناء على ذلك تقوم الوحدة الوطنية، وارتباطا بذلك يتم حشد التحالفات وبنائها سياسيا واجتماعيا وقوميا وإقليميا وعالميا...
والذاكرة المثقوبة تلك هي التي دفعت أيضا بقيادة حركة حماس إلى المأزق، عندما اعتقدت أن أولوياتها حركة إخوان مسلمين تتقدم على أولوياتها كحركة مقاومة فلسطينية، وعندما انحازت ضد الدولة الوطنية السورية ورحلت إلى قطر ونقلت رهانها إلى السلطان أردوغان، وأيضا عندما سمحت للثقافة والسلوك الطائفي بالتقدم على البعد القومي والوطني في الصراع الدائر في المنطقة ومع الاحتلال، لتكتشف أن ما كانت تحظى به من احترام ودعم وتقدير لم يكن بسبب بعدها الإخواني، أو الطائفي، بل بسبب دورها كحركة مقاومة ترفع راية فلسطين، في حين أن رحيلها إلى قطر كان المصيدة بينما عنتريات أردوغان تصب الآن وقودا في طائرات إسرائيل التي تقصف غزة (كما تقول بعض وسائل الإعلام) في حين أن ما يعيدها لذاتها هي صواريخ سورية وإعادة تموضعها مع محور المقاومة وليس مع عربان الخليج وسفسطات الغنوشي.
وفي ذات السياق تتجلى الذاكرة المثقوبة في ممارسة بعض قيادات اليسار الفلسطيني، الذي ضاعت وغابت ملامحه وهويته اليسارية ثقافيا واجتماعيا وممارسة،حين فقد هذا اليسار رؤيته وبدأ يغازل الفكر الليبرالي والفكر الديني، وتخلى عمليا عن مقارباته الطبقية التي تشكل جوهر وحجر الزاوية لأي تنظيم أو حزب سياسي يساري، فهيمنت على خطابه السياسي والاجتماعي الميوعة والنزعة الحقوقية والإنسانوية، وبالتالي فقد القدرة على الربط الدائم والمحكم بين الاقتصاد والسياسة، والتقاط التحولات الاجتماعية العميقة في المجتمع الفلسطيني كشرط ضروري لصياغة البرامج واستراتيجيات العمل.
ويتعمق ثقب الذاكرة في التجربة الفلسطينية، عندما تتجاهل أو تقفز تلك الذاكرة عن جوهر وطبيعة النظام الرسمي العربي، المحكوم بمعادلات التبعية السياسية والاقتصادية والهيمنة والتموضع الاستراتيجي تحت مظلة الحلف الأمريكي – الإسرائيلي، حيث لا تأثير أو دور أو مكان للمناشدات والعواطف الأخوية في هكذا معادلات، وعليه فإن الاستمرار في مطالبة النظام الرجعي العربي، بكل بناه ومقارباته وارتباطاته بدعم شعب فلسطين هو مثال ساطع على معضلة الذاكرة المثقوبة، وحال الجامعة العربية المثقبة من كل اتجاه هو نموذج على هذا الواقع المهين.
أما ما يتعلق بالرهان على عدالة المجتمع الدولي، فتواصل الذاكرة المثقوبة الرهان على إمكانية تحييد الولايات المتحدة وأنظمة أوروبا الاستعمارية، وكأن انحياز تلك المنظومات الاستعمارية هو مجرد سوء فهم أو بسبب نقص في المعلومات أو لقلة التواصل... وكأن ذلك الانحياز ليس في جوهره انحياز استراتيجي شامل لإسرائيل باعتبارها مكون عضوي من مكونات الاستراتيجية الإمبريالية في المنطقة (نعم الإمبريالية)، ولهذا فأي مناشدات ونداءات واستعطاف لا يغني ولا يسمن من جوع، بل ويعكس سذاجة سياسية منقطعة النظير.
والذاكرة المثقوبة ذاتها هي الذاكرة التي تصدق وتروج لتخاريف الرجعيات الدينية ( ولا أقول الدين الإنساني العادل المقاوم والحضاري) بما تضخه من غيبيات وهبوط وتشويه للوعي والقيم ومخاطبة حيوانية للغرائز وحرف للتناقضات وتشتيت المجتمعات وتمزيقها إلى طوائف وقبائل متناحرة.
قد يقول البعض، هذا غير ممكن وليس صحيحا، ولهذا... من المفيد أن نعيد تدوير النقاش من خلال التذكير بعدد من المحطات التاريخية في التجربة الفلسطينية لنرى هل فعلا كانت حركة الدوائر الأربع المشار إليها في سياق هذه المقالة غير ما ذكرت أم لا، فإذا كانت غير ذلك، فأنا أعترف بخطأي وأسحب كل ما كتب أعلاه، أما إذا كانت كذلك ومع ذلك نصر على مواصلة الرهانات والخيارات والخطاب ذاته.. فنحن إذن وبلا شك أمام ذاكرة أكثر من مثقوبة، لنتذكر ونستعيد:
الحربالعالمية الأولى ووعودها – وعد بلفور – سايكس بيكو – صك الانتداب – ثورات العشرينات والثلاثينات – جيش الإنقاذ- مجازر العصابات الصهيونية عام 1947 و 1948 – العدوان الثلاثي عام 56 - اجتياحات لبنان 78 و 82 – الانتفاضة الأولى-فشل أوسلو - الانتفاضة الثانية – مواقف أوروبا عبر تاريخ الصراع – مواقف أمريكا واستخدامها الفيتو أكثر من 42 مرة لمنع إدانة إسرائيل– مئات القرارات الدولية التي تنام وبكل هدوء في أرشيف الأمم المتحدة ومجلس الأمن... – حرب غزة الأولى وحربها الثانية وحربها الثالثة وحربها العاشرة... و... و... و.
إذن،ما يواجهه الشعب الفلسطيني والحروب التي تشن عليه، ليست ردود فعل وانفعالات، كما أنها ليست ردا على الصواريخ وغيرها، بل هي سياسة واستراتيجيات عمل عميقة ومتراكمة لترسيخ المشروع الاستعماري وحمايته بكل الوسائل ومن كل أطراف الحلف العالمي والإقليمي بكل ما يمثلونه من حوامل ومصالح طبقية اقتصادية وثقافية، وبالتالي لسنا في سوق عكاظ لنواجه كل ذلك بخطبة وقصيدة.
وهنا أصل إلى السؤال التالي: هل تستطيع القوى السياسية الفلسطينية بكل أطيافها أن تعيد بناء ذاتها بما يخرجها جميعا من متاهة الذاكرة المثقوبة ويعيدها لوهج ذاكرة الشعب الفلسطيني وما يجترحه من مقاومة وقدرة على الصمود وقدرة على تحمل الألم وقدرة على بذل التضحية وقدرة على الانتفاض وقدرة على مجابهة عدو يتفوق عليه ماديا آلاف المرات ومع ذلك يقف ويجابه ويتصدى ويستشهد ويرد بما ملكت يداه؟
التعامل مع هذا السؤال ليس رياضة ذهنية، بل عملية إعادة بناء وتقييم شاملة للخيارات: سياسيا، اجتماعيا،اقتصاديا، ثقافيا، تنظيميا (بما يشمل القوى السياسية وم.ت.ف. والسلطة الفلسطينية والمنظمات الشعبية والأهلية) وبناء أسس استرتيجية التحالف الاجتماعي والقومي والإقليمي والدولي بما ينسجم مع أهداف عملية إعادة البناء المشار إليها، وبما يتناغم وينسجم مع تاريخ وإرادة وحقوق ومقاومة الشعب الفلسطيني... عملية تعني في بعض جوانبها نفض الواقع تماما وتحمل آلام التجديد وصعوبات البناء... وغير ذلك ستستمر المأساة وستواصل الذاكرة المثقوبة فعلها حتى النهاية.
(1)- "من المعروف أن ماركس قد حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر، من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في مارس 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمرا واقعا، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصر ماركس على اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة «باعتبارها جاءت في غير أوانها» كما فعل الماركسي الروسي المرتد سيئ السمعة بليخانوف، عندما كتب في نوفمبر 1905 مشجعا نضال العمال والفلاحين ولكنه أخذ يصيح بعد ديسمبر سنة 1905على طريقة الليبراليين «ما كان ينبغي حمل السلاح».
لم يكتف ماركس بالإعجاب الحماسي ببطولة أصحاب الكومونة الذين «هبوا لاقتحام السماء» على حد تعبيره. فقد رأى في هذه الحركة الثورية الجماهيرية – ولو أنها لم تحقق هدفها - خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى، وخطوة إلى الأمام للثورة البروليتارية العالمية، خطوة عملية أهم من مئات البرامج والمناقشات. وقد وضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه التجربة واستخلاص الدروس التكتيكية منها وإعادة النظر في نظريته على ضوئها". (الدولة والثورة –لينين).
Write a comment