بقلم: نصار إبراهيم
يفجعنا سؤال كنفاني في روايته رجال في الشمس، لماذا لم يدق أبو قيس وأسعد ومروان جدران الخزان وهم يختنقون في صهريج مقفل يشتعل سعيرا في شمس الصحراء اللاهبة على حدود الكويت... غير أن سؤال كنفاني هذا سؤال مراوغ ويدفعنا للبحث عن الإجابة بإعادة بناء السياق، بل وإعادة وعي السياق...والسؤال بهذا المعنى يتخطى الحدث ويغدو في الواقع الموضوعي سؤالا أكثر اتساعا من الحدث المحدد... فمنطق سياقات النص تقول بأن ضياع فلسطين معادل للموت، فأي حياة ستكون بعد ضياع الوطن... حيث تصبح خيارات الأفراد الذاتية، كما في سياق رواية رجال في الشمس، حتى لو نجح الفلسطينيون الثلاثة بعبور الحدود، خيارات مغلقة تماما، فهم يعبرونها بلا وطن وبلا هوية...إنهم بمثابة (البدون). ألم يسأل كنفاني صفية، سؤالا بديهيا آخر يشير لهذا المصير: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ فتجيب: الوطن هو ألاّ يحدث ذلك كله!" ، وما دام قد حدث فقد أصبحت أقدار ومصائر الفلسطيني منذ تلك اللحظة مقيدة بذلك.
إذن كنفاني بسؤاله المراوغ يحيلنا وبذكاء إلى السؤال النقيض: ماذا لو دق الفلسطينيون الثلاثة جدران الخزان فعلا... ما الذي سيتغير؟ لا شيئ!
ذلك لأن أبو قيس وأسعد ومروان كانوا يدركون بأن عودتهم من حيث أتوا تعني الموت ذاته،فهو موت في كل الاتجاهات، سواء في الخزان أو بالعودة، فالأمر الذي فرض عليهم خيار الصمت وهم يختنقون ببطء في الخزان، كان في الحقيقة موتا محققا أكثر هولا.
إذن بالتأكيد أن الفلسطينيين الثلاثة قدحاولوا أو فعلا دقوا جدران الخزان .... ولكن هل هناك من يسمع، وهل هناك في كل الآفاق من هو قادر على تغيير النتيجة، قد نجد الإجابة على سؤال كنفاني المضمر هذا في عبارة كثيفة قالها في نص آخر: "كان الفرار موتا!" هكذا إذن، البقاء موت والفرار موت... هو الموت يحيط بالفلسطيني المنكوب مهما كان الخيار.
لنعيد طرح السؤال مجددا، ولكن في سياق الحاضر: يا أبا الخيزران، (أيتها القيادة العاجزة)،ها هم الفلسطينيون يدقون جدران خزان الواقع، بل ويدقون جدران خزانات السماء كلها بدمهم ومقاومتهم منذ أكثر من ستة عقود...فماذا ستفعل؟ يصمت الفلسطينيون ويموتون، ينتفضون ويموتون، يقاومون ويموتون... إذن ما دام الوطن ضائعا سيكون الموت ذاته، فالتقدم موت، لأن ما حدث حدث ولم يتغير بعد، والتراجع أيضا موت لأنه يعني القبول أو التكيف مع ما حدث، البقاء موت والفرار موت... إذن ليمت الفلسطيني وهو يقاوم...هكذا يعيد غسان كنفاني إغلاق دائرة الأسئلة: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟"،لأن " الوطن هو ألاّ يحدث ذلك كله" ولأنه "كان الفرار موتا..." ثم النهاية "لا تمت إلا وأنت ندّ..." وهذا ما يفعله الفلسطيني كل يوم... هو الموت في كل الأحوال، لكنه الآن موت الّند، وليس موت الفرار بلا ثمن في الصحراء الحارقة.
أما أبو الخيزران بكل ما يرمز له، فليعذرنا فليس بمقدوره أن يغير شيئا بعجزه، فهو يدرك أن عجزه هو سبب موت الفلسطيني المستمر اليوم وغدا... ولهذا فإن سؤاله: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ هو سؤال لا قيمة له... فهو مجرد محاولة ساذجة للهروب من المسؤولية عن الضحية التي كان يقودها بوعي إلى مصيرها المحتوم.
Write a comment