بقلم شذى عودة – مدير عام مؤسسة لجان العمل الصحي
شهد التاريخ نشوء مؤسسات المجتمع المدني ضمن سياقات تاريخية وأنظمة حكم سياسية مختلفة، ولعبت منظمات المجتمع المدني دوراً فاعلاً وإنْ كان متفاوتاً في الإنتقال والتحول الديمقراطي وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمطالبة بتحقيقها وإحترامها. وفي الدول الديمقراطية لمنظمات المجتمع المدني شأن في تعزيز الممارسات الديمقراطية والتنمية بأبعادها المختلفة.
إلا أن منظمات المجتمع المدني الفلسطيني تمتاز بخاصية فريدة، تعود إلى تطورها التاريخي بشكل مختلف لتطورات المجتمعات المدنية في الدول الأخرى، وحتى بتناقضها مع المفاهيم والأسس النظرية التي تتحدث عن المجتمع المدني. ففي حين تشكلت غالبية منظمات المجتمع المدني في إطار الدولة، إلا أن تشكل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني كان في غياب الدولة، وغياب الاستقلال والتحرر الوطني، وفيظل احتلال قائم، وغياب السيادة على الأرض وتحقيق المواطنة. وبعد تشكل السلطة الفلسطينية عام 1994 وفق إتفاق أوسلو اختلف الوضع والدور لها وتأثر بجملة من العوامل.
إن منظمات المجتمع المدني تشكل حلقة وصل بين الأفراد والمؤسسات الحكومية، فهي تقوم بمهام وأدوار لا تقوم بها الحكومة وتخلق فرصاً لأفراد المجتمع بهدف ممارسة حقوقهم ومسؤولياتهم كمواطنين في ظل نظام ديمقراطي. وهي تكون غير خاضعة لسيطرة الحكومة بل وتقوم بدور الرقيب على الحكومة وتمارس ضغوطاً عليها وتسعى إلى محاسبتها.
وبما أن مؤسسات المجتمع المدني تشكل وسيطاً ما بين الفرد والدولة، ولكي تقوم بدورها بكفاءة، وتنظم جهود وطاقات الأفراد، عليها أن تقدم شكلاً جديداً من التنظيم الذاتي لعملها، يقوم على تعزيز الحكم الرشيد القائم على أساس المساءلة والشفافية بداخلها، بما يجعلها جهة فاعلة لمساءلة الأطراف الأخرى سواءً القطاع الحكومي أو القطاع الخاص.
أما أسس ومبررات المساءلة للمنظمات الأهلية فهي قائمة على إعتبار أن هذه المنظمات هي عامة بصبغتها، وقانوناً هي ملك لأعضائها في الهيئة العامة، والمسؤولين فيها يقومون بأعمالهم بالوكالة عن المجتمع المعني. وفي الوقت ذاته تجد هذه المنظمات مبرراً لوجودها في تقديمها خدمات مختلفة للجمهور، وإشباعها إحتياجات مجتمعية معينة، بمعنى تستمد شرعيتها من جمهورها، ومن القانون الذي ينظم عملها، ويفرض عليها إستحقاقات معينة .
إن المجتمع المدني في طبيعة الحال وكما هو متعارف عليه في العالم يعبر عن إستقرار المجتمع، إلا أن المجتمع المدني الفلسطيني تشكّل إستجابةً للأزمات التي تعرضت لها فلسطين التاريخية وبالتالي إرتبط بالصراع والمقاومة من أجل البقاء والصمود والثبات على الأرض تمهيداً لإقامة دولة فلسطينية.
ومن هذا الواقع وبفعل الأزمات جاءت المؤسسات الأهلية الصحية الفلسطينية إستجابةً لتعزيز الصمود وتلبية الاحتياجات الصحية والتنموية على أساس الحق الإنساني. ومنذ نشأتها وهي تسعى إلى الوصول إلى المناطق المهمشة والفئات الفقيرة ، وتضع جهداً عالياً في الإلتصاق مع مجتمعاتها وفي تلبية إحتياجاتها عبر العيادات والمراكز والبرامج الصحية المختلفة. وأدركت المنظمات الأهلية الصحية عمق الإرتباط بين المفهوم الصحي والتنموي وتأثير جملة من المحددات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية على التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة فأدمجت العمل التنموي بالصحي وقامت ببناء نماذج تنموية صحية ريادية للفئات الأكثر تهميشاً كالنساء والأطفال والشباب والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين وغيرهم.
وتدرك المؤسسات الأهلية الصحية أن الاحتلال المعوق الرئيس نحو التمتع بالصحة والوصول إلى الخدمات أو الحصول عليها فلم تتوانى في فضح إنتهاكات الاحتلال ضد المواطنين على أصعدة مختلفة رابطة العمل الصحي التنموي بالوطني، فالمنظمات الأهلية الصحية لم تنسلخ عن نسيجها الاجتماعي والوطني.
وما زالت المنظمات الأهلية الصحية تحافظ على مساهمتها في تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية. إلا أن الدور الخدماتي يتأثر حالياً بالمتغيرات الحاصلة نتيجة إتفاق أوسلو ووجود وزارة الصحة الفلسطينية التي أخذت على عاتقها تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية. هذه المتغيرات أفرزت واقعاً جديداً نحو تعزيز الإستخدام الأمثل للموارد عبر بناء شراكات مع وزارة الصحة في المواقع المختلفة، وبناء نماذج صحية وتنموية لا تقوم بها وزارة الصحة فتميزت في مجالات عدة.
وترى المنظمات الصحية بنفسها لاعباً هاماً وفاعلاً في النظام الصحي الفلسطيني ومؤثراً في سياساته وتشريعاته وأصبح هذا الدور أكثر إلحاحاً وضرورة لتعزيزه حيث يشهد تراجعاً في وقتنا الحالي. وما زال يقع على المنظمات الصحية الأهلية دور في فضح ممارسات الاحتلال وإنتهاكه لحقوق الإنسان وعلى رأسها الحقوق الصحية وهذا بالضرورة يتطلب تعزيز أدوات الضغط والمناصرة وتعزيز وعي الفئات المجتمعية بحقوقها والدفاع عنها والمطالبة بها سواءً من السلطة الفلسطينية أو من المجتمع الدولي. إن دور المسائلة الذي يفترض أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني للحكومة وأجهزتها الرسمية مثل الوزارات وهنا محط إهتمامنا وزارة الصحة ليس بالمستوى المطلوب وهذا يتطلب تقويته وتعزيزه بشكل جماعي ووفق الصلاحيات والمسؤوليات والأدوار المتوقعة من مؤسسات المجتمع المدني.
حالياً نرى أن واقع المنظمات الأهلية الصحية يقف أمام تحديات كبيرة تهدد إستمراره. ومن جملة هذه التحديات إختلاف المناخ التمويلي الدولي الذي بات يتحول بتمويله للمنظمات الأهلية من تمويل الخدمات إلى تمويل قضايا المناصرة والتمكين والتدريب على إعتبار أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن الخدمات. ومن وجهة نظرنا إن هذا فهم خاطئ وفيه خطورة تحرر الاحتلال من واجباته وهو يعني أننا لسنا جميعاً نرزح تحت الاحتلال، ومفترضين أننا نتمتع بدولة مستقلة كاملة السيادة ولديها المقومات الكافية .
أما التمويل المشروط الذي بدأ يمتد إلى العديد من المنظمات الدولية والوكالات الممولة والحكومات التي باتت تتشدد في إشتراطاتها مما يهدد المؤسسات الأهلية الصحية التي تأخذ موقفاً من هذا التمويل ويقوض فرص إستمراريتها.
إن وجع المنظمات الأهلية عامة والصحية على وجه الخصوص يتمثل بالإنقسام الفلسطيني الفلسطيني الداخلي الذي يؤثر على عمل المنظمات الأهلية وصعوبة تكامل العمل فيما بينها وتواصلها وإستنزافاً لمواردها.
. . وأخيراً فالحديث عن علاقة المنظمات الصحية الفلسطينية مع وزارة الصحة الفلسطينية فمن وجهة نظرنا ترى تراجعاً فهناك ضعف في التنسيق، ومحاولة في تقويض فرص إستمرار عمل المؤسسات ولذلك ترجماته عبر فك الشراكات في العيادات أو فتح مراكز في أماكن تواجد المؤسسات الأهلية، وتوقف المجلس الصحي الفلسطيني عن عمله، والمتطلبات الكثيرة لترخيص المراكز والخدمات الصحية، والقرارت الأخيرة التي أصدرها معالي وزير الصحة للممولين حول ضرورة مرور المشاريع إلى الوزارة للموافقة عليها مسبقاً دون التشاور مع المنظمات الأهلية..، كلها محاولات لإحتواء المجتمع المدني وضرباً لفعاليته وإستقلاليته، ومن قال إن المجتمع المدني والمنظمات الصحية بعيدة عن مجتمعاتها وإحتياجاتها، فبرامجها ومشاريعها ليست مصممة لشعوب في كوكب آخر، ونحن في المؤسسات الجماهيرية إنطلقنا من وسط جماهيرنا وسنبقى معهم ولهم.
ان كل ما تم التعريج عليه يستدعى أن تعيد مؤسسات المجتمع المدني عامة والصحية التنموية خاصة الإعتبار لتمتين العلاقات فيما بينها والوقوف أمام التحديات بتنسيق مواقفها، ودراسة آليات تنمية مواردها المحلية والتعاضد مع فئات المجتمع ومع القواعد الشعبية الجماهيرية فهم الحضن الدافيء لها ولرسائلها وقيمها، وكذلك يجب إعادة صياغة شكل العلاقة مع وزارة الصحة في إطار التفاهمات والقانون وعلى أساس المشاركة والتكاملية وإحترام الأدوار.